في هذا المقال، تتأمل الكاتبة والمديرة التحريرية مارثا شاباس أعمال الفنانة ساغاريكا سوندارام، كاشفةً كيف يمكن للفن والتصميم أن يعيدا وصلنا بالعالم الطبيعي ويُعمّقا من معرفتنا بالذات. اغمر نفسك في هذه التأملات، وأيقظ صلتك الإبداعية بالطبيعة.
The Poetry of Place
A Pullman Draft is an idea. A provocation. A spark for conversation and an invitation to think differently. Welcome to Pullman Drafts, a series of personal reflections with the House of Beautiful Business, featuring bold voices from business, culture, media, and technology.
٢٨ أغسطس ٢٠٢٥
less than a minute
ربما كان لك في طفولتك بيتٌ خشبي على شجرة، تجلس فيه عاليًا فوق الحي وتشعر بقُدمِك كجذورٍ ضاربة في الأرض. أو ربما كنت تملك كوخًا عند البحر، حيث تحب أن ترتشف مشروبك بينما تتأمل امتداد المحيط اللامتناهي. في الأمكنة التي تجمع بين العفوية والترويض، وبين البرية والزراعة، سحرٌ خاص؛ فهي تذكّرنا بجذورنا في الأرض، وبأننا جزء من شيء أقدم من مدننا وناطحات سحابنا ونُصُبنا التذكارية.
في باريس، الصيف الماضي، وبينما كنت أقف أمام لو بانتِيون في طقس يبلغ 30 درجة، ناولت امرأة غريبة تذكرة مترو لابني ذو الثلاثة أعوام. قالت المرأة: "إليك تذكار تأخذه معك للبيت"، موضّحةً أن التذاكر التي استخدمت لأكثر من 120 عاماً ستُستبدل ببطاقات ذكية حديثة. ألقى ابني التذكرة في جيبه ونسيها على الفور. أما أنا فحرصتُ تلك الليلة على إخراجها من جيب بنطاله. فما بدا تافهًا لطفلٍ في الثالثة، كان مليئاً بالذكريات بالنسبة لي.
قبل عشر سنوات، جئت إلى باريس لأبتعد قليلًا عن حياتي ولأنهي روايتي التي كنت أكتبها. استأجرت شقة صغيرة في الدائرة الثامنة عشرة، شمال ضوضاء مونمارتر. وكان مكتبي يطل على فناء عتيق تتوسطه شجرة لوكست سوداء تشق حجارة الرصف بجذعها. وفي الأيام المشمسة، كنت أفتح الأبواب الفرنسية وأدفع مكتبي حتى شرفة الحديد، ليتموضع بين الداخل والخارج في نفس الوقت. لطالما شدّتني الأمكنة التي تذوب فيها الحدود بين الداخل والخارج. أجد في هذه العوالم المعلّقة السكينة والإثارة معًا، إذ يتسرّب الطقس إلى أعماقي ويصبغ مزاجي. وبصفتي كاتبة، أشتاق إلى هذا القرب من تقلبات الطبيعة. لكنني لم أنصب مكتبي في العراء قط. فما يُلهِمني هي تلك الجدلية بين الداخل والخارج.
وهذا الاهتمام بالتوتر ذاته هو ما جذبني إلى أعمال ساغاريكا سوندارام البارزة. وهي نحّاتة وفنانة وُلدت في الهند وتسكن في نيويورك، وتستخدم تقنية قديمة في اللباد تقوم على صبغ الصوف الخام يدويًا ثم إذابته بالماء والصابون لتشكيل بنى معقّدة وملمسيّة: فتارةً ترتفع من الأرض، وتارةً أخرى تتدلى من الأسقف، أو تلتف حول الأشجار أو تملأ الشقوق بين الصخور. كما أن ساغاريكا تفتنها فكرة أن الإنسان لا ينفصل عن العالم الطبيعي، وتستهويها جدلية الداخل والخارج. وتقول لي: "تتجذر الطبيعة في أعماق نفسيتي. وأهوى أن أشق الأشياء، مثل الجيود والبلّورات والأزهار. يدفعني شغفي لاكتشاف غموض ما يختبئ في الداخل."
كنّا نتحدث عبر زوم في ظهيرة خريفية مشمسة. كنتُ في تورونتو، وهي في أحد استوديوهاتها الثلاثة في مانهاتن. وبينما كانت تحدّثني عن أعمالها، سارعت لتعرض علي صورًا من معارضها الأخيرة، ثم توقفت عند جدارية زاهية مكوّنة من قماش وصوف خام وخيوط متدلية. وفي قلبها شكل بيضاوي يتوسط شبكة من الأسلاك المتشعّبة كالأوردة. قالت مبتسمة: "تشدّني الأشكال المجرّدة التي تحتمل قراءات عديدة، فقد يكون هذا زهرة آكلة أو مقلة عين." وأكملت: "تستكشف أعمالي علاقتنا بما لا يمكن ترويضه. أظنها تلتقط جوانب شرسة ومغرية من الطبيعة، كما أنها تعكس طبيعة الإنسان أيضًا."
إنشاء بوابات إلى عوالم متفرّدة
تدرك ساغاريكا أن افتتانها بعلاقة الإنسان بالبيئة يعود إلى طفولتها. وقد وُلدت في كلكتا، وتنقلت في نشأتها بين بيئات متباينة تمامًا. عاشت طفولتها مع أسرتها في دبي، ولم تكن حينها المدينة الكبرى التي نعرفها اليوم، بل كانت "صحراء حضرية" تحيط بها أراضٍ رملية قاحلة، شتاؤها دافئ وصيفها لاهب لا يُحتمل. ثم عادت ساغريكا إلى الهند لتلتحق بمدرسة داخلية تجريبية في وادٍ أخضر في الجنوب، والذي ألهم بشدّة إبداعها الغض. قالت: "لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أحظى فيها بكل هذا الفضاء الطبيعي. كان الوادي بمثابة وعاء كبير يحتوي نمونا. وكنّا نصعد التلال في رحلات مشي، والتي كانت جزءًا أساسيًا من تعليمنا."
وفي المدرسة، نسجت ساغاريكا طقسًا خاصًا مع الطبيعة، وكان لهذا الطقس أثر عميق في نشاتها. كانت كل يوم تمرّ تحت شجرة أمالتاس شاهقة، وتشعر بأصفى لحظات السعادة لبضع دقائق. وأضافت: "كانت أوراقها الصفراء البراقة تخطف الأبصار في الضوء، وتلقي ظلالًا متراقصة آسرة." وحين رأتها صديقة وسألتها عمّا يثير ضحكها، لم تشعر ساغاريكا بالحرج، بل بأن أحد لاحظ شعورها واعترف بها. وشرحت قائلة: "لقد أكدت لي أن تلك اللحظات اللاملموسة من الفرح كانت حقيقية."
واليوم، تعمل ساغاريكا في مرسمها ضمن مشروع سيلفر آرتس، في الطابق الثامن والعشرين من فور وورلد تريد سنتر. تطل النوافذ العريضة على نصب أحداث 11 سبتمبر ونهر هدسون. وهناك يبلغ التوتر بين ما هو بشري وما هو طبيعي ذروته الشعرية. وبينما هي معلّقة فوق غابة الزجاج والخرسانة في جنوب مانهاتن، تمارس ساغاريكا تقليدًا قديمًا، تحول فيه كُتل الألياف الخام الناعمة إلى نسيج. تعيش ساغريكا مرحلة ازدهار هائل في فنها، في مفارقة مع ضيق المدينة التي تتنفس تحتها. وتقول: "تناقض مدينة نيويورك بطريقة ما فكرة الفضاء الواسع. وهذا يثير فضولي أيضًا." وتتابع: "أعيش حياتين مليئتين بالإبداع والعلاقات والصداقة والبهجة بين نيويورك والهند. ولا تعوّض إحداهما أهمية الأخرى؛ فبدون الهند ستغدو نيويورك خانقة بالنسبة لي، وبدون نيويورك ستظل للهند حدودها. أشعر بامتنان عميق لامتلاكي هذين النظامين البيئيين المزدهرين من الإبداع."
في الآونة الأخيرة، بدأت ساغاريكا في نقل فنها إلى الخارج، لتجرب كيف يتفاعل مع بيئات أقل تحكّمًا. وأصبح اهتمامها بالمعمار يتعاظم، فتصنع فضاءات يستطيع الزائر أن يعبرها ويختبرها بجسده. أرتني صورة لأحد أعمالها بعنوان "ممر على حافة الأرض"؛ كان عبارة عن هيكل يشبه الخيمة مصنوع من قطعة واحدة من القماش، لبّدتها بطبقات من صوف الهيمالايا حتى اكتسبت ملمسًا حُبَيبي. قالت إنه مستوحى من الستوبا البوذية ورغبتها في استكشاف العلاقة الحركية التي تنشأ بين الجسد البشري والبناء. وأضافت: "أريد أن أرى كيف يتفاعل الناس مع أعمالي، وأن أصنع بوابات إلى عوالم متفرّدة."
دمج الطبيعة لتعزيز العافية
إن اهتمام ساغاريكا بتقاطع الإنسان والفضاء والبيئة يعيد إلى الأذهان تقاليد راسخة في العمارة والتصميم. فمثلًا، استلهم المهندس فرانك لويد رايت أشكال الطبيعة وأنماطها من المناظر الطبيعية والضوء والماء. وكان يتمنى أن تكون بيوته ومبانيه مساكن للعافية، تتواجد في انسجام تام مع العالم من حولها. وكان يحث طلابه قائلًا: "ادرسوا الطبيعة وأحبّوها وابقوا قريبين منها؛ فهي لن تخذلكم أبدًا." ومن أبرز مبانيه متحف غوغنهايم في نيويورك، الذي قيل إنه صُمّم ليشبه صدفة النوتيلوس، فيما تستحضر قبّته الزجاجية الدائرية تناظر خيوط بيت العنكبوت.
واليوم، تشهد العمارة التي تُنشئ صلة نفعية بين الإنسان والطبيعة نهضة متجددة. فالتصميم البيوفيلي — الذي يستلهم العالم الطبيعي كمصدر للسكينة والإنتاجية والعافية — ألهم وأرشد إنشاء العديد من المساحات والمعالم البارزة، من الهاي لاين في نيويورك وبروميناد بلانتِيه في باريس إلى آبل بارك في وادي السيليكون وبوسكو فيرتيكالي في ميلانو المغطّى بعشرين ألف نبتة. وتفترض البيوفيليا أن الإنسان يبلغ ذروته حين تندمج حياته بالطبيعة؛ فهي رؤية ضاربة في ما قبل التاريخ، إذ تطوّر الإنسان لآلاف السنين متجاوبًا مع العالم الطبيعي، بينما كان تكيّفه مع البُنى البشرية مجرد ومضة عابرة في مسيرة النوع. وتذهب الفكرة إلى أننا نكون في أوج انسجامنا وفي سلام مع أنفسنا ومحيطنا، حين تعيد فضاءاتنا نسج تلك العلاقة الانسيابية الديناميكية المتبادلة مع الطبيعة.
بعد فترة من حديثي مع ساغاريكا، صادفت تذكرة المترو الباريسية التي خبأتها في دفتري. وبرغم كونها مجرد قطعة ورق مقوّى واهنة، إلا أنها تأسر ذاكرتي بجاذبية هائلة، فتُطلق في داخلي طوفان من صور ومشاعر. ومع كل لمسة إصبع على الشريط الممغنط، أعود إلى شرفتي في الدائرة الثامنة عشرة، أطل على الفناء وحجارة الرصف وشجرة اللّوكست. يسكنني ذلك الإحساس بالتارجح بين الداخل والخارج من جديد؛ وأشعر بالسكينة وبالإلهام وبشغفٍ جامح للكتابة.
ومؤخرًا، ابتكرت لنفسي طرقًا لأُسقِط هذا الشعور على أيامي العادية. فبينما أنا جالسة إلى مكتبي في تورونتو، أحاول أن أرى محيطي بعين مختلفة، مستحضرة افتتان ساغاريكا بسرّ "جوهر الداخل". أنظر من نافذتي وأتخيل شقّ الأشياء: الجيرانيوم الذابل في حديقتي الهاوية، وجذع شجرة التفاح البري، والتربة المغطاة بالأوراق التي ستتصلب قريبًا مع أول صقيع… وكأنني أنقب عن حقائق أعمق للطبيعة. أظن أنه يمكننا القول إنني أبحث عن "شِعر المكان" في عملي وفي تفاصيل حياتي اليومية عمومًا، عبر التحديق بالعالم بعناية أكبر، لعل قوة الانتباه تحوّل العادي إلى استثنائي. وقد وصلتُ إلى بعض التقنيات والمحفزات التي تعينني هذه الأيام؛ أظن أنها ستلهمك أنت أيضًا.
عن المؤلف
ساغاريكا سوندارام هي نحّاتة وفنانة تقيم في نيويورك، تصنع قطعها الفنية باستخدام الألياف الطبيعية والأصباغ. وقد عُرضت أعمالها في متحف برونكس للفنون في نيويورك، ومؤسسة آل هِلد بالتعاون مع ريفِر فالي آرتس كولكتف في بوايسفيل، ومركز الفنون مودي في جامعة رايس بهيوستن، والبينالي البريطاني للنسيج في ليفربول، وبينالي العمارة في شيكاغو، وغاليري نيتشر مورت في نيودلهي، وبالو غاليري في نيويورك. وقد كتبت عنها نيويورك تايمز وآرت نيوز. وهي حاصلة على ماجستير الفنون الجميلة في النسيج من بارسونز / نيو سكول بنيويورك، ودرست في NID أحمد آباد وMICA في بالتيمور. وهي حالياً مقيمة في برنامج شارب ووالِنتاس بنيويورك، وتمثلها غاليريتا نيتشر مورت (الهند) وأليسون جاك (المملكة المتحدة).
مارثا شاباس هي المديرة التحريرية لهاوس أوف بيوتيفل بزنس، ومؤلفة روايتين: "وجهي في الضوء" (2022) و"مواقع متعددة" (2011). وكانت سابقًا ناقدة رقص في صحيفة ذا غلوب آند ميل، كبرى الصحف الكندية، حيث كتبت أيضًا عن المسرح والكتب. وقد نُشرت مقالاتها النقدية وأعمالها القصصية في العديد من المطبوعات.