في هذا المقال، يدوّن الكاتب والمفكّر الاستراتيجي تيم ليبريخت تفاصيل لقاء جمعه بالمؤلّف الشهير والمدرّب القيادي مايكل بونغاي ستانير، إذ يتأملان معًا كيف يشعل الاحتكاك والمخاطرة والتوتر الإبداعي شرارة أفكار جديدة. اغمر ذاتك بمرئياتهما، ودع الإبداع يتدفّق أكثر في حياتك.
In Search of Inspiration
A Pullman Draft is an idea. A provocation. A spark for conversation and an invitation to think differently. Welcome to Pullman Drafts, a series of personal reflections with the House of Beautiful Business, featuring bold voices from business, culture, media, and technology.
٢٨ أغسطس ٢٠٢٥
less than a minute
هناك أيام طويلة. وهناك أيام تمتد بلا نهاية، مُنهِكة إلى حدٍّ يترك دماغك مثقلًأ كحقيبة يد ممتلئة تهتز في مقصورة الدرجة الاقتصادية على متن رحلة عابرة للمحيط وسط أجواء مضطربة. كان هذا حال ذهني بعد ثلاثة عشر ساعة من محاضرات تيد في فانكوفر عام 2019.
فقد أتيتُ إلى فانكوفر باحثًا عن أصوات جديدة ورؤى غير مألوفة. كانت تلك البدايات الأولى لمؤسستي هاوس أوف بيوتيفل بزنس، وكنتُ بحاجة إلى متحدثين لمهرجاننا المرتقب حول الاقتصاد المرتكز على الحياة — نهج للأعمال يقوم على الاستدامة والشمولية والإبداع. وكانت تيد تعد بأن تكون جنّة القيّمين، المكان الأمثل للقاء روّاد الغد والمفكّرين الأوائل. لكن مع انتهاء المؤتمر، لم أكن في حال يسمح لي بخوض حديثٍ مفهوم مع أيّ أحد. لم يكن الأمر مرتبطًا بالمتحدثين، فقد كانوا جميعًا على قدر عالٍ من التميّز. بل كان انعكاسًا لعقلي المنهك، وقد دخل في حالة إطفاء بعد يوم طويل من التهام كمٍّ هائل من المعلومات بينما كنتُ محرومًا من نور الشمس.
وجدتُ نفسي في تلك الضبابية واقفًا في بهو الفندق بجوار غريب يكسوه الإنهاك كما كان يكسوني. كان طويل القامة كلاعبي كرة السلة، يرتدي نظارة كبيرة وقميصًا هاوايًّا صاخب الألوان، فتميّز عن الجمع من حوله. خرجتُ أتنشّق الهواء العليل، فإذا بالغريب نفسه إلى جواري مجددًا؛ جلسنا على طرفين متقابلين من المقعد ذاته، نتأمل جبال نورث شور الشاهقة وهي ترسم أفق فانكوفر الساحر. ظلّ الصمت بيننا سيّدًا للحظة طويلة. وحين نطقنا أخيرًا، لم نُعرّف بأنفسنا أو نتبادل الألقاب، بل علّقنا على النور والسماء والظلال التي راحت تتلاشى مع حلول الغسق. غمرنا شعور بطمأنينة عميقة وانسجام رقيق مع ما حولنا. وأدركتُ أنني في تلك اللحظة كنتُ أكثر استلهامًا مما شعرتُ به طوال اليوم.
ومن هنا بدأت صداقتي مع مايكل بونغاي ستانير. كان مايكل آنذاك مدرّبًا تنفيذيًا مرموقًا، وقد حقق كتابه الأكثر مبيعًا "ذا كوتشنغ هابِت" انتشارًا واسعًا، ناقلًا أسلوبه القيادي القائم على الفضول إلى قرّاء العالم. أضحكتنا كثيرًا مفارقة الموقف: فبعد يوم كامل من "الإلهام" المبرمج بعناية، كان الهواء الطلق وإطلالة الجبل أكثر إلهامًا وأثرى وقعًا. بالنسبة لي، كانت التجربة أشبه بكشفٍ مُفاجئ. أما بالنسبة لمايكل، فلم تكن المفارقة غريبة عليه. فقد كان يعرف جيّدًا طبائع الإلهام المتقلبة.
حكاية الويسكي الأسود
في منتصف التسعينيات، وقبل أن تشتهر محاضرات تيد، كان مايكل جزءًا من فريق استشاري يبتكر أساليب لإطلاق منتجات وخدمات جديدة إلى العالم. تعاقدت معهم شركة إسكتلندية لصناعة الويسكي — عميلٌ يمكن القول إنه يبيع المنتج الصحيح في الزمن الخاطئ. فقد كانت التسعينيات عقدًا يحتفي بالمشروبات المنعشة مثل "الهارد ليموناد" و"الفودكا كولرز"، بينما بدا مشروب "سكوتش" ومصانعه الغيلية ذات الأسماء المعقدة بعيدة عن ركب الموضة. ولكي ينجح مشروب "سكوتش"، كان عليه أن يتخلّى عن صورته كمشروب الشيوخ الأشيب، ليصبح مغريًا لذائقة المستهلك العصري.
أدرك مايكل أنهم بحاجة إلى فكرة لامعة. فجاءت الفكرة على هيئة "الويسكي الأسود"، أوّل سكوتش بلون فحمي داكن في العالم. وكان الأمل أن يجذب لونه الغريب ومكوّناته الغامضة جيلًا جديدًا من عشّاق الويسكي. أُعجب العميل بجرأة الفكرة وأصالتها، وفي عام 1996 ظهر لوخ دو ("البحيرة السوداء" باللغة الغيلية) على رفوف المتاجر.
وإن كنت من شاربي الويسكي، فربما تعرف إلى أين ستسير الحكاية. أما إن لم تكن، فحسبك أن تعرف أنّ الويسكي لم يحقق النجاح. إذ سخر منه الزبائن وانتقده خبراء الذوق، فتوقّف إنتاجه سريعًا وتلاشت زجاجاته من الأسواق. هل يعني ذلك أن الإلهام كان مضلِّلًا؟ لم يظن مايكل ذلك. بالنسبة له، كانت التجربة تكشف حقيقة عميقة عن طبيعة الإلهام. فلكي تفتح قلبك للإلهام، عليك أن تخاطر بإمكانية الوقوع في أخطاء كبيرة.
أصمِت ناقدك الداخلي
إن بدا لك أنّ الإلهام أمر يتجاوز سيطرتك، فالعلم يؤكّد ذلك. فقد أظهرت صور الدماغ أن بذرة الإلهام كامنة في عقولنا، لكنها تنتظر لحظة التفعيل. قد يأتي هذا التفعيل عبر لحنٍ عذب، أو مشهد يخطف الأنفاس، أو عبر ثلاث دقائق من حوارٍ مؤثر في مسلسلك المفضّل على نتفلكس، أو عبر خيوط الضوء وهي تتناثر على شرفة مطبخك. لا يمكننا التنبؤ بزمان قدومه أو سببه. كل ما نستطيع فعله هو أن نبقى منفتحين على لحظته، ونستقبله بلا أحكام مسبقة حين يزورنا.
ومع ذلك، هناك طرق تزيد من احتمال زيارته. مايكل مولع بالمشي؛ فخطواته وسط الطبيعة تبعث فيه حالة من السكينة، كزنّ يتلاشى فيه ثقل اليوم خلفه. أما أنا، فألجأ إلى السينما والمعارض حين أحتاج إلى إعادة شحن نفسي. لا أذكر أنني غادرت معرضًا قط من دون خفّة في قلبي أو ومضة فكرة لم أعهدها من قبل. وشريكتي قارئة نهمة؛ وجملة واحدة متقنة تُجسّد شعورًا تعرفه ولم تسمع أحدًا يصوغه من قبل، كفيلة بإطلاق سلسلة من التفاعلات الإبداعية في داخلها.
قد يبدو أسلوبك في استقبال الإلهام مختلفًا تمامًا. فالبعض يبلغ ذروة الإبداع حين يكون ذهنه مشغولًا ومتيقظًا، فيما يحتاج آخرون إلى نشاط جانبي يُشعل الشرارة. ولعلّ "إلهامات الاستحمام" المثال الأشهر؛ فجميعنا خُطف بفكرة مباغتة ونحن منشغلين بغسل الشعر. وهناك من يحتاج إلى التباين ليحفّز مخيّلته. فصدمة مكان جديد أو تجربة غير مألوفة قد تخرجك من روتينك، وتخلق تصادمًا إبداعيًا بين العادة والتجديد، لتجعل المألوف مختلفًا ومتغيّرًا ونابضًا بالحياة. والحقيقة أنّ هذه "الاصطدامات الإبداعية" غالبًا ما تكمن في جوهر الإلهام. فنحن نفتح لأنفسنا فضاءات جديدة حين نتوقف عن تقسيم حياتنا إلى جدران منفصلة بين عمل وراحة وسفر وعائلة ومجتمع وثقافة وغيرها. تسمح تلك الفضاءات لأجزاء مختلفة من ذواتنا أن تتلاقى، فتُطلق كيمياء غامضة من الأفكار والمشاعر والرؤى. وهي الكيمياء التي تُخصب أرض الإلهام.
مايكل لديه قاعدة واحدة ثابتة حين يتعلّق الأمر بفتح الباب أمام الإلهام: أصمِت ناقدك الداخلي. فما من شيء يدمّر الإبداع مثل إصدار الحكم عليه مبكّرًا. يرى مايكل الإلهام كحوار مشفّر بين عقلنا الواعي واللاواعي. قال لي: "أرى بوابة تُفتح وبداية حوارٍ ثري. وأخطر ما يمكنك فعله هو مقاطعته. فالإلهام ليس حلًا لمشكلة ما. لا يمكنك أن تقيّم جدواه أو تلعب دور الناقد السلبي منذ اللحظة الأولى. عليك أن تُبقي القناة مفتوحة. فثمة شيء مقدّس في الإلهام، يتطلب صبرنا واحترامنا."
ثم إن الحياة مليئة بالمنعطفات، أسرع مايكل بتذكيري. فهناك خاتمة طريفة لحكايته مع "المشروب الأسود". إذ بعد سحبه سريعًا من الأسواق، اكتسب المشروب مكانة أسطورية. تداول عشاق الويسكي الشائعات حول العالم؛ من تذوّقه شارك قصصًا مرعبة، ومن لم يجرّبه استمع بحسد ودهشة. ومع تقلّص المخزون، تحوّلت الزجاجات إلى مقتنيات نادرة يتهافت عليها الجامعون، تُباع وتُشترى بأسعار تفوق قيمتها الأولى بأضعاف. واليوم، بات للمشروب الأسود جمهور أشبه بالطائفة المخلصة.
وما العبرة من هذا المقال؟
باختصار، الإلهام قصير، لكن التاريخ طويل. وانطلاقًا من هذه الفكرة، بتُّ أحاول أن أستدعي المزيد من الإبداع إلى حياتي. هو دومًا توازن دقيق؛ فلا يمكنك أن تفرض لحظة الإلهام، ولا أن تُجبر مخيّلتك على العمل. فعقولنا متمرّدة بطبعها. لكنني بدلًا من ذلك، أفتح نفسي لمؤثرات جديدة، متبنّيًا بعض الأساليب التي تساعدني على النمو والتغيير الشامل. وهذه أبرزها:
عن المؤلف
مايكل بونغاي ستانير هو مؤلّف حاصل على جوائز ومعلم ومتحدث عالمي. اشتهر بكتابه الصادر عام 2016 "ذا كوتشنغ هابِت"، الذي نقل أسلوبه القيادي القائم على الفضول إلى ملايين القرّاء. وهو المؤسس والرئيس التنفيذي السابق لشركة بوكس أوف كرايونز الرائدة في التدريب والتطوير، وقد ألقى محاضرات في مؤتمرات مرموقة حول العالم.
تيم ليبريخت هو المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي المشارك لـ "هاوس أوف بيوتيفل بزنس"، الشبكة المكرّسة لاقتصاد يتمحور حول الحياة. وهو مؤلف كتب: "الرومانسي في الأعمال" (2015)، "نهاية الفوز" (2020)، و"بيكي: كيف يمكن لقوة التقييم أن تنقذ العالم" (2026). وقد حصدت محاضرتاه على منصة "تيد" ملايين المشاهدات.