ثمة جمال آسر في أن ترى حياتك كحكاية متدفقة، وأنت بطلها الثابت عبر فصولها. لكن، ما مدى واقعية فكرة الذات الثابتة؟ هل يمكن حقًا أن تتبدّل شخصياتنا؟ وماذا يحدث حين يكون التغيير مفروضًا من قوة خارجية تهدّد جوهر ما نحن عليه؟
How Much Have You Changed ?
A Pullman Draft is an idea. A provocation. A spark for conversation and an invitation to think differently. Welcome to Pullman Drafts, a series of personal reflections with the House of Beautiful Business, featuring bold voices from business, culture, media, and technology.
٢٨ أغسطس ٢٠٢٥
less than a minute
في شتاء عامي الحادي والعشرين، بدأتُ أشعر بوعكة غامضة. أصبح النهوض من السرير صباحًا معركة يومية؛ ذهني غائم وجسدي مثقل لا يستجيب. قبل عدة أسابيع فقط، كنتُ طالبة تصميم جرافيكي نشيطة وسعيدة، محاطة بدائرة واسعة من الأصدقاء. وفجأة، لم أعد أستطيع التركيز في دروسي، ولا الاستمتاع بالأنشطة التي كانت دومًا تملؤني بهجة. ذبلت روحي وانسحبت، كئيبة وبلا طاقة، حتى عن عائلتي. وبعد أن عَجِزت جلسات الإرشاد القليلة عن تقديم أي تفسير لحالتي، أُحِلتُ لإجراء فحص بالرنين المغناطيسي. وكان الخبر الذي تلا الفحص صاعقًا. فثمة ورم غُدّي نما على غدتي النخامية. وبعبارة أبسط: كان لديّ ورم في الدماغ.
حين أستعيد ذكريات تلك المرحلة من منظوري الحالي، أتمنى لو كنتُ قد التقيت بعالمة الأعصاب هانا كريتشلو وقتها. شرح لي أطبائي كل شيء بلغة الطب، لكنني أعتقد أن فهمي لمرونة الدماغ — للكيفية التي تصوغنا بها التجارب القاسية — كان ليمنحني عزاءً عظيمًا آنذاك. فحين تحلّ علينا الكوارث، يكون سؤال الجدوى من عذابنا من أصعب ما نواجهه. وكثيرًا ما نلجأ إلى الروحانيات أو الدين لنهتدي إلى معنىً ما وسط العتمة. ولم أكن أتخيل أن أبحاثًا رائدة في علم الجينات قد تحمل لي سكينة أخرى وسط العاصفة.
نحن نرث الذكريات كما نرث العيون البنية
كنتُ أتحدث مع هانا في صباح مشمس من أواخر الصيف. ما زالت خدّاها مورّدين بعد جريِها اليومي لمدة نصف الساعة، تلك العادة التي تواظب عليها "مطرًا كان أو شمسًا" لما تمنحه من فوائد ذهنية. وهانا هي عالمة أعصاب في جامعة كامبريدج، وقد كتبت بإسهاب عن موضوع تأسرها تفاصيله: الجدل الأزلي بين "الطبيعة" و"التنشئة". كانت هانا دائمًا في طليعة الأبحاث التي تكشف حجم الدور الذي تؤديه الجينات في صياغة من نحن وكيف نبني حياتنا. تتزايد الأدلة على أن الصفات المعقدة منقوشة في جيناتنا، من توجهاتنا السياسية حتى أذواقنا الموسيقية. ثم ظهر مجال بحثي جديد ليضيف بُعدًا مدهشًا: فنحن لا نرث السمات فقط من والدينا، بل قد نرث ذاكرتهم أيضًا.
"يكاد الأمر لا يُصدَّق"، تقول هانا وعيناها تتلألآن. "علم التخلّق فوق الجيني هو آلية آسرة، تسمح للتجارب أن تغيّر فعلًا من شكل حمضنا النووي. وهذا يعني أنّ بمقدورنا توريث أبناءنا الصدمات والذكريات الإيجابية، بما يعينهم على تفادي أخطار بعينها والازدهار."
وتسرد لي الدراسة الأشهر التي شكّلت أساس هذه النظرية. فقد عُرّضت مجموعة من الفئران لصعقة كهربائية خفيفة كلما قُدّمت لها الكرز الحلو — أشهى ثمارها المفضلة. ومع مرور الوقت، كوّنت الفئران استجابة سلبية تجاه الثمرة؛ إذ ارتبطت رائحتها في أذهانها بالعقاب، كما في تجربة بافلوف الشهيرة. وحين أعيدت التجربة على أحفاد تلك الفئران، استجابوا للرائحة بالطريقة ذاتها: تجمّدوا خوفًا دون أن يذوقوها من قبل. وكان من المستحيل تفسير الأمر على أنه "سلوك مكتسب"، فالأحفاد لم يعرفوا أبدًا جدتهم أو جدهم الفأر.
"يبدو أن آليات شبيهة موجودة لدى البشر أيضًا"، تقول هانا، ونبرة فضول ممزوجة بالتعاطف تتردّد في صوتها. وتوضح: "تُظهر البيانات أدلة متزايدة عن انتقال الصدمات بيولوجيًا عبر الأجيال. وكيف نخزّن تلك الذكريات، ثم نتفاعل معها بما يساعدنا على النجاة مستقبلًا."
سألتها: "إذن، قد يترك التعافي من حدث مرهق في حياتنا، مثل مرض خطير، أثرًا بيولوجيًا إيجابيًا على سلالاتنا لقرون، بمعنى أننا نورّثهم صراعنا الذي تغلّبنا عليه؟"
وحين أومأت هانا مؤكدة أن الأمر وارد، لم تكن تدري كم يعني لي ذلك، ولا كم هو شخصي هذا السؤال بالنسبة إليّ.
أقاسٍ كالألماس أم لين كخامة الطين؟
كنت متشوقة لمعرفة رأي هانا في أصل شخصياتنا. ما الذي يفسّر من نكون، وما نحب، وما نصير إليه في حياتنا؟ "لا شيء منقوش على حجر"، تقول هانا. "الجينات مهمة، لكن ثمة عملية بيولوجية مذهلة في أدمغتنا تُعرف بالمرونة المشبكية. وهي تسمح لنا بتحويل المعلومات الجديدة إلى وصلات بين الخلايا العصبية، ما يفتح مسارات جديدة داخل الدماغ." بمعنى آخر، تعُيد المعلومات والتجارب حرفيًا تشكيل نظرتنا للعالم وطريقة تفاعلنا معه.
والأشخاص الذين نحيط أنفسنا بهم يؤثرون بدورهم في سلوكنا. تشرح هانا ظاهرة "العدوى الأخلاقية والعاطفية". "لقد خُلقنا مبرمجين على التقليد والتوافق، وهذا جزء من نجاحنا كجنس بشري." تُظهر الدراسات أنه إن وُجد مخادع في غرفة ما، يبدأ الآخرون في تقليده. وبالمقابل، فإن قائدًا نزيهًا متعاطفًا يُلهم من حوله لاقتفاء أثره. تقول هانا: "الخلاصة أن أدمغتنا في حالة تغيّر دائم. فكل ما نعيشه ونجربه قادر على تشكيل وصلات جديدة ضمن الدوائر العصبية القائمة. وهذا يعني أننا نبدأ فعلًا في التفكير بطرق جديدة." وتضيف: "يساهم جريي الصباحي، ذلك التمرين الجسدي، في تعزيز المرونة وولادة خلايا دماغية جديدة وبناء صلابة نفسية. فالجري والالتزام بقرارات العام الجديد والانخراط مع أناس مختلفين واستكشاف أماكن جديدة، كلها تترك أثرًا طويل الأمد على طريقة عمل دماغك، وبالتالي على من تكون."
لم تحتاج لإقناعي بالأمر. ففي مرحلة ما بعد تشخيصي، وحين عدت إلى دروسي وبدأت أشعر ببعض التحسّن، استدعتني بروفيسورة إلى مكتبها لتناقش أعمالي. قالت إن أعمالي قد نضجت أضعافًا مضاعفة منذ مرضي. قالت: "لم أرَ من قبل تصاميم كهذه منك. إنها قوية وآسرة، وكأن شيئًا عميقًا داخلك قد تبدّل."
هزّتني كلماتها بعمق، لأنني كنت أعلم أنها صادقة. لقد غيّرني مرضي. وأجبرني أن أنظر إلى داخلي وأكتشف من أكون، بعيدًا عن يقين المستقبل الذي اعتدت اعتباره مضمونًا. الفلسفة الرواقية القديمة، مثلها مثل علم النفس الحديث، تؤكد على أهمية الاعتراف بما لا نستطيع التحكم فيه، والتركيز على ردود أفعالنا بدلًا من ذلك. وفي عالم يعجّ بالقسوة والمعاناة، يصعب أحيانًا تصديق المقولة: "ما لا يقتلك يقوّيك". لكنني في أشد أيام مرضي قتامة، وجدت أملًا وصلابة لم أكن أعلم بوجودهما في داخلي. فاجأت نفسي. وما زالت تلك الدهشة ترافقني. لقد كشَفت لي أنني لا أستطيع أن أتنبأ بقدراتي، وأن شخصيتي لا تزال قيد التشكّل، وأن كل تحدٍّ فرصة لتخطّي توقعاتي. يكاد يعجز لساني عن وصف كم هو باعث على القوة أن أدرك أنّ صلابتي وصبري يزدادان مع الزمن، وأنني أزداد "إتقانًا" لفن أن أكون إنسانًا. ويمنحني ذلك ثقة بدائية وغريزية، كأن في داخلي قوة يمكنها النجاة من أي شيء.
بهجة النمو
اتضح أن مشاعري ليست فريدة تمامًا. فالذين يؤمنون بقدرتهم على التغيير والنمو الحقيقي غالبًا ما يكونون أسعد حالًا. وهذا ما يسمّيه علماء النفس "بعقلية النمو"، أي الإيمان بأن المواهب التي نولد بها ليست سوى نقطة بداية، وأن المثابرة والعمل الجاد يجعلنا أذكى وأمهر وأفضل. كان يُعتقد سابقًا أن المرونة العصبية تنتهي بعد الطفولة، لكن الأبحاث أثبتت أن الدماغ عضو حيّ قادر على إعادة تشكيل نفسه طوال العمر. علميًا، هذا يعني أن الشخص الذي كنت عليه قبل عشر سنوات يملك دماغًا مختلفًا تمامًا عن دماغك اليوم.
لدي أصدقاء لا يرون في ذلك غرابة. وهم يتأملون ماضيهم بفضول وحياد. مثلًا، صديقتي صوفيا في مراهقتها قرأت كل روايات توايلايت، وغطّت جدران غرفتها بملصقات بيونسيه، وظللت جفونها بالأسود الدخاني. واليوم تنظر إلى صورها في السادسة عشرة وتضحك: "بمَ كنت أفكر؟! ذلك المكياج! تلك الروايات السخيفة عن مصاصي الدماء!"
أما أنا، فلا أشعر بمثل هذه الغرابة. فلدي ذكريات طفولة واضحة وحية، كأفلام قصيرة أعيد مشاهدتها في ذهني. الطفلة التي كانت تحدّق في الأعشاب الحمراء الجامحة في سهول جنوب إفريقيا، وتشعر بعظمة العالم تتصاعد داخلها، لا تزال حاضرة في داخلي بصدق. أستطيع لمس آمالها ومخاوفها؛ وعندما أغمض عيني وأصغي، تغمرني أحلامها كضباب مألوف سبق أن عشته. صحيح أنني فخورة بكل ما تغيّرت ونضجت به —بكل ما تعلمت وأنجزت وتخطيت— لكنني متيقنة أنه ما زالت "أنا" ذاتها التي عاشت كل ذلك. ولن أرغب أبدًا في التخلي عن تلك الصخرة الراسخة في مركز قلبي، ذلك الجوهر الذي ظل معي منذ البداية.
أشعر بالارتياح حين تؤكد لي هانا أنني لستُ مضطرة للتخلي عن جمال الحكاية الكبرى. تقول: "لا خطأ في أن نشعر باستمرارية عميقة في حياتنا، ما دمنا ندرك أنها تتعايش بقوة مع إمكانية التغيير." لقد أجبرني المرض على التوقف، والاعتناء بنفسي كما لم أفعل من قبل. وقد عشت بطئ الزمن بصورة مختلفة، مع رعب المجهول. وقد تكون بعض التغييرات أشد قسوة من غيرها، لكن دائمًا ما يلوح خيط من نور، حتى لو اضطررت للتحديق كي تلمحه. واليوم، حين أرفع بصري إلى السماء، أرى أمامي احتمالات واسعة، وأدرك كم أن رد فعلي بيدي، وكم أن "أنا" هي صنيعة ذاتي.
أحاول مؤخرًا أن أطبّق أفكار هانا في سياق حياتي اليومية. فالمرونة العصبية قادرة على إحداث نمو هائل طوال الحياة، لكنها أيضًا قادرة على مساعدتنا في إجراء تغييرات صغيرة في عاداتنا اليومية. يمكنها أن تجعل مسيرتنا المهنية أكثر إثمارًا، وحياتنا أكثر امتلاءً وحيوية. وإليك بعض الطرق التي عملت بها على تنمية "عقلية النمو" لدي.
عن المؤلف
هانا كريتشلو هي عالمة أعصاب ذات شهرة عالمية وخلفية في الطب النفسي العصبي. وهي زميلة في كلية ماغدالين بجامعة كامبريدج، حيث أجرت أيضًا أبحاث الدكتوراه الخاصة بها. وهي مؤلفة لثلاثة كتب بارزة في علم الأعصاب: جويند-أب ثينكنغ (2022)؛ ساينس أوف فايت (2019)؛ وكونشسنس: ليدي بيرد إكسبيرت بوك (2018). تظهر هانا بانتظام في التلفاز والإذاعة، وكان آخرها تقديمها العلمي في سلسلة فاميلي برين غيمز على بي بي سي مع دارا أوبراين. في 2019، اختارتها جامعة كامبريدج ضمن "النجوم الصاعدة في علوم الحياة"، وفي 2014 أدرجها مجلس العلوم البريطاني ضمن قائمة "أفضل 100 عالم في المملكة المتحدة".
جيسي ماي بالمر هي المديرة الإبداعية في هاوس أوف بيوتيفل بزنس. وهي مُصممة متعددة التخصصات، متخصّصة في تصميم التجارب وبناء العوالم، وقد كرّست العقد الأخير في صقل فنها وصياغة اللغة البصرية لأبرز العلامات التجارية. تنحدر جيسي من جنوب إفريقيا وتقيم اليوم في برلين، وقد أقامت جيسي وعملت في أنحاء العالم بمحطات طويلة في البرتغال والإمارات والولايات المتحدة. غذّت رحلتها هذه استكشافًا عميقًا لقوة الجمال داخل عالم الأعمال.